فتحت عيناي بصعوبة لأجد كمال أمامي و هو يصب على وجهي قطرات ماء بارد. قائلا:

لقد أغمي عليك. رجعت البيت وجدتك ملقاتا على الأرض. هل انتي بخير؟ كان لساني عاجزا عن الكلام فأشرت اليه بصوت خافت: فوق..في غرفة العجوز.. الشيخ حامد في غرفة العجوز..

لكنه نظر الي بتعجب و قال: العجوز بخير لقد مررت بها قبل دخولي البيت.

قفزت من السرير في ذعر: لقد كان الشيخ حامد في غرفتها وكان وجهه بالدم و لسانه مسحوب.. لقد رأيته.. اششش وضع كمال يده على فمي و دفعني الى الوراء برقة و طلب مني أن أرتاح قليلا. لم أفهم أكان ذلك حلما! أأكون فعلا قد جننت! أو تكون الجارة على حق و انني قد بدأت برؤية أشياء عجيبة في هذه العمارة.

استلقيت قليلا ثم خرجت من الغرفة لأرى كمال و قد جهز طاولة العشاء. جلسنا نأكل لكنني لم أذق لقمة. نظرت اليه و قلت: علينا أن ننتقل الى شقة أخرى. كان يواصل أكله بكل هدوء و هو يقول: و لما ذلك؟ فانطلقت كالطير المذبوح وصوتي كله خوف: لقد رأيت ما يكفي في هذه الشقة!! انا سوف أجن قريبا! كذلك نصحتني الجارة التي انتقلت منذ ايام من هنا و اخبرتني ان هذه العمارة ملعونة و كل من يسكنها يرى أشياء مفزعة. ارجوك يا كمال علينا ان ننتقل الى مكان جديد ارجوك..

وضع كمال الاكل من يديه و قال: لقد كانت أمي تقول هذا أيضا. فربما الشعور بالوحدة طول النهار هو السبب في هذه التهيئات. سوف تتعودين مع الوقت لا تقلقي.

لا أعلم كيف يحتفظ هدوءه هكذا! لكنني لم أستسلم و طلبت منه أن يسمح لي بزيارة أهلي ربما أرتاح قليلا بعد زيارتهم فلم يمانع.

خرجت في الصباح الباكر ووصلت و كان أبي مازال في البيت. استقبلتني أمي بكل سرور و أخبرتني أنها كانت قلقة جدا علي من آخر زيارة لها فقررت زيارتي لكنها لم تجد العنوان! استغربت كثيرا. قالت لي امي: لقد جئت للعنوان الذي اعطيتني اياه لكنني لم اجد سوى عمارة واحدة مهجورة لا يسكنها أحد.

ماذا تعنين لا يوجد العنوان! انها عمارة من ثلاثة شقق تتوسط الشارع و ليست في زقاق او مكان خفي! هل تأكدتي من العنوان قبل النزول من البيت؟ قالت: لا اعلم يابنتي لقد اعطيت لسائق التاكسي الورقة التي كتبتي لي فيها العنوان و هو من اوصلني.

فاجاب ابي و هو يهم بالخروج: لابد انك اخطأتي في العنوان خذي معك احدا من اولادك في المرة القادمة.

دخلت مع أمي للغرفة و قصصت عليها كل ما حصل في الأيام الماضية و كانت عيناها تتسعان من هول ما جرى! لكنها لم تكن قد صدقت كلامي كله. واخبرتني انها قد زارت الشيخ حامد بالأمس و كان بخير و طلبت منه مساعدتها في تزويج اختها الوسطى! و رجحت أمي انني لست بخير لأنني لم أتعود بعد على العيش بمفردي. فطلبت مني أن أصبر و لا أزعج زوجي بهذه التخيلات. و اعطتني سلسلة من عنقها فيها آية الكرسي لتحفضني من كل شر. قبلت يديها و لل أعلم لماذا همست في أذنها ان لا تثق في شيخ حامد ثانية..كنت مسرعة حتى لا أتأخر و كان هناك شيء قوي أقوى من المرات السابقة يجذبني نحو الشقة لأعود في ذلك الموعد.

و فعلا رجعت البيت و كان كمال قد عاد و جهز الاكل. سالني: كيف حال أهلك؟ قلت: بخير. ثم أضاف: هل مازلتي تشعرين بتوعك؟ فاجبته لا. لكنني كنت شاردة الذهن. و خطر على بالي أن أسأله عن أهله فقلت: لماذا لا أرى صورا لأبويك في البيت؟ وضع كمال الأكل من يديه و نظر الى جدران الشقة و هو يقول: هم هنا في كل ركن من الشقة بذكرياتهم ولا أرى ضرورة لصور فهي لن تحمل سوى الغبار.

لكنني أردت أن أراهم فأنت لم تحكي لي عنهم و عن طفولتك. أخذ كمال منديلا و مسح يديه ثم فمه ثم قام قائلا انه وقت الاستحمام.

لا جدوى من الحديث معه فهو لا يحب الكلام الكثير. أخذت أرتب المطبخ و كنت شاردة الذهن حتى انني نسيت أنه عليا أن أدخل الحمام لمساعدته. كنت انضف الصحون عندما سمعت صوتا خافتا ينادي باسمي. كان صوت الماء أقوى فلم أعره إهتماما و واصلت غسل الصحون. لكن الصوت صار يقترب شيئا فشيئا و ينادي باسمي الى أن دوى كدوي الرعد في كامل أرجاء الشقة! تسمرت مكاني و أغمضت عيناي و عندما فتحتهما و جدت نفسي في الحمام! و رأيت تلك العجوز ثانية تليف ظهر كمال لكنها التفتت الي هذه المرة و عيونها كلها شر و غضب حتى انني لم استطع أن أنزل عيني من وجهها القاسي لكنني لم أنطق بكلمة فقط تمنيت أن يمر هذا الكابوس بسرعة.

حينها ابتدأ الضباب في الحمام يتلاشى و ظهر كمال يرتدي منشفته و قال لي: أين كنتي؟ لقد تأخرتي على الموعد ثانية. نظرت حولي لم أجد العجوز! لابد أنني أتوهم. خرجت لأتبعه نحو الغرفة و انا ارتجف من الخوف.التفت الي قائلا: لماذا تأخرتي ثانية. لن تسامحك ابدا.

لم افهم ما يقول! لكنني امسكت يده و كنت ارتجف قائلة: ارجوك فلنرحل من هذا البيت. لكنه لم يجبني و توجه لنوم.

حاولت ان انام ليلتها وكنت قد تعبت من قلة النوم و شدة التفكير لكنني لم أستطيع. فجأة احسست ان كمال يستيقظ في وقت غير معتاد. اغمضت عيني حتى لا يرى انني مازلت صاحية. توجه نحو الحمام فنزعت الغطاء عني و رحت اتبعه بكل حذر. دخل الحمام و بدأ يملأ الماء في الحوض و هو يتمتم بكلام غير مفهوم.. لم أسمع جيدا فقد كان صوت الماء عاليا لقد كان يقول: سامحيني يا أمي.. سامحينا يا أمي.. لن نتأخر ثانية..

و فجأة التفت نحوي و في وجهه غضب شديد. اقفلت باب الحمام بسرعة و ركضت نحو الغرفة.

جاء خلفي كمال بخطوات ثقيلة بدون أن يتلفظ بكلمة و عاد الى نومه العميق!

يا إلهي كيف لي أن أنام أو أن أطمئن في هذا البيت لم أعد أقدر على الاحتمال. انتظرت الصباح بفارغ الصبر و حين جلسنا للفطور انفجرت في وجه كمال بالبكاء: أنا لم أعد أتحمل هذا يا كمال و انت لا تصدقني لكنك استيقظت البارحة و كنت تكلم نفسك في الحمام! هذه الحالة لا يمكن السكوت عليها! ان كلام تلك السيدة صحيح و علينا الهروب من هذه الشقة فورا.

رمقني بنظرة استخفاف شديد و قال: سوف نتحدث في هذا الموضوع قريبا لا تقلقي.

لكنني كنت قد قررت ان اذهب لذلك الشيخ اللعين و اجعله يفسر لي كل الذي يحصل. انتظرت حتى يخرج كمال و خرجت مسرعة.

لم احس بالتعب هذه المرة صعدت الجبل دون عناء وكل أملي أن أجد تفسيرا لما يحصل في شقتي. و عند دخولي كان الشيخ جالسا في مكانه المعتاد وكانت الرائحة الكريهة قد زادت من حوله. رفع بصره نحوي قائلا: لقد عدتي بسرعة يا عروسة! خير ماذا تريدين؟ انفجرت في وجهه: اريد أن أفهم مالذي يحصل في شقتي ومن هذه العجوز التي تسكن في السطوح و ما علاقة بها و لماذا أرى أشياء غريبة تحصل في البيت لا يراها او يسمعها غيري! اجبني ارجوك لقد جننت..

اجلسي. قالها بصوت منخفض وكأنه لا يريد أحدا أن يسمعه. لقد ارهقتك الوحدة و لك كل الحق! أنا لا أعلم عمن تتحدثين لكنني سوف اكتب لك حجابا يحرسك من وساوس الشر. كان يحدثني و لا ينظر الي فقد كان ينظر حوله كالمجنون كأنه يبحث عن أحد او كأن أحدا كان يراقبه! ثم رمي في جيبي حجابا لونه أخضر و أشار الي بالخروج.

رجعت البيت و كلي خيبة لقد توقعت ان يساعدني الشيخ ولو بكلمة! لكنه زاد من همي و قلقي. جلست على السرير أنظر الى ذلك الحجاب التافه ثم حملته لارميه في الزبالة لكن شيئا كان يدفعني لفتحه قبل رميه ففتحته ولم أجد به سوى ورقة صفراء قديمة مكتوب عليها كلمة غريبة بقلم اسود كانت "يبرها"!! مامعنى هذه الكلمة! اهذا سحر اسود من أعمال الشيخ أم هو استهتار لحالتي! "يبرها" يبدو كأنه اسم جن و العياذ بالله. سمعت صوت الباب يفتح فسارعت و رميت الحجاب في زبالة. لقد وصل كمال ورحت اجهز العشاء و تلك الكلمة لم تغادر ذهني. أكملنا العشاء و دخل كمال الحمام و هو يقول : لا تتأخري. لكنني كنت مشغولة بتلك الكلمة. حملت ورقة و قلم و كتبتها "يبرها" و رحت أنظر اليها و نسيت الزمن. فجأة رأيت الحروف رأيتها تتحرك يمينا و شمالا و في الأخير استقرت في عيني كلمة واحدة" اهربي" نعم لقد كانت "اهربي"...

فجأة سمعت الصوت ذاته ينادي باسمي صوت ارتجفت له الجدران و رأيت نفسي أتحرك دون أن أمشي و أدخل الحمام وسط ضباب كثيف و حر قاتل. كيف لي أن أهرب! و هل فات الأوان! لم أستطع أن أتحرك و كأنني مقيدة بسلسال حديد!

ابتدأ الضباب بالزولان و سمعت صوت كمال ينده علي و يقول: لقد تأخرتي.. تأخرتي كثيرا. قلت عن ماذا تأخرت؟ فنظر الي وقال: عن الهروب. و مسك يدي بيده المبللة بالماء لكنني عندما رفعت بصري اليه لم يكن مبللا بل كان بملابسه!! وكان بعيدا دققت النظر في اليد المبللة التي تخرج من حوض الحمام و تمسكني فإذا بها يد العجوز التي سحبتني اليها في سرعة لم اقدر حتى على مقاومتها. و سمعت كمال يقول: سامحيني يا أمي! ثم نظر نحوي و قال: هي تحتاج إليك لتعود الي. هي لم تسامحني و لن تنساني..أمي لم تسامحني و لن تنساني...ثم شدتني يد العجوز بقوة نحو الماء و لم اعد بعدها أسمع ولا أرى سوى أنين و ظلاما....

استيقظت صباحا ووجدت نفسي ملقاتا على سرير بملابسي. اتجهت نحو طاولة الفطور كان كمال قد جهزه ثم جذب كرسي و قال: اجلسي يا أمي!

استغربت منه لكنني حين مددت يدي للأكل كانت لا تشبه يدي لقد كانت مجعدة و ناشفة!! لمست وجهي و كانت تملأه التجاعيد! ركضت نحو المرآة و اذا بي لا أرى وجهي بل هو وجه تلك العجوز !! انها تبتسم في المرآة! ابتسامة النصر و هذا كمال يقبل يدي و يخرج في هدوء!!!

الحلقة الثانية

جميع الحلقات