كانت ليلة مظلمة. ليس كظلمة الليل بل ظلمة لم أراها من قبل. ظلمة تجعلك تختنق من السواد و تبحث في كل مكان عن بصيص نور. كنت أقود السيارة عائدا الى البيت. و كان الظباب الكثيف يحمل الي صورا مفزعة ليشغل خيالي بما وراءه. كنت أقود بحذر شديد الى أن لمحت نورا خافتا يشع من بعيد فرحت أسرع لعلني أتخطى هذا المكان المظلم الكئيب. و فجأة من وسط الظباب يظهر جسم و يرتطم بالسيارة بقوة مرعبة ليقع على الطريق بلا حراك.. لم أعد أعرف ماذا أفعل. اوقفت السيارة بكل قوتي لكن كان قد فات الأوان!! ماذا أفعل! هل أنزل لأتفقد المصاب!! أم افر من هنا قبل قدوم الشرطة!! لم أعد قادرا على التفكير. التفت الى الوراء لأرى أنه مازال ممددا على الطريق! نزلت من السيارة و يداي تكاد تتجمد من الخوف.. لم أستطع تمييز شيء من حجم الضباب و السواد الكثيفين من حولي! اقتربت منه شيئا فشيئا لقد كانت سيدة ممدة تغطي وجهها الدماء! حاولت تحريكها بقدمي لكنها لم تتحرك ساكنا! كان الخوف قد ملأ قلبي و لم يبقي فيه متسع لشفقة! فرحت أجرها من وسط الطريق و فجأة سمعت صوت شيء يسقط منها ليقع بجانب قدمي. نظرت يمينا و شمالا مازال الشارع فارغا من كل حركة و مازالت العتمة سائدة فلم أستدل جيدا ماذا كان هذا الذي وقع من يدها. فرحت اتحسس المكان بيدي واذا به مفتاح لا اعلم لماذا اخذته و خبأته في جيبي ثم تركتها على الجانب حتى لا تصطدم بها السيارات. و هممت بالرجوع لسيارتي! لكن ضوءا قويا قادما نحوي شل قدماي عن الحراك!! و فجأة إمتلأ المكان بالنور و علت فيه أصوات سيارات الشرطة!!! فلم أجد مهربا الا أن اقف مكاني و أسلم نفسي..
كان مكتب الضابط يعج بالناس و كنت قد فقدت السيطرة على أعصابي تماما! لم أقدر حتى على التفكير! كيف لي أن أخرج من هذه المصيبة!!
كانت نظرات الضابط الي مفزعة و هو يقول: هل كنت تحاول الهرب؟ لم استطع الكلام كنت في حالة فزع هل فعلا قد قتلت شخصا!!!
ثم امسك بي شرطي و دفعني الى السير بجانبه ثم فتح بابا حديديا و دفعني الى وسط غرفة مظلمة أشبه بهذه الليلة و أقفل الباب و رحل!!
لم أعد أعلم ان كان هذا حلما ام كابوسا ام انني فعلا في سجن!! لم أعد اميز بين الحقيقة و الخيال!! فالظلام الدامس جعل من عقلي ضريرا لا يميز بين الأشياء! رحت ابحث في هذه الغرفة مددت يدي لعلني استدل على حائط أو سرير أجلس عليه. فجأة انطلق صوت خافت من ورائي: لا يوجد هنا سوى حصيرة على الأرض فلا تتعب نفسك بالبحث.
التفت ورائي و رأيت بصعوبة رجلا كهلا لم استطع تحديد ملامحه جيدا ومان يجلس على حصيرة في ركن الزنزانة. فاقتربت منه و جلست بجواره. أخيرا هناك من سيشاركني ظلمة هذه الليلة الطويلة.
قلت: شكرا لك. لقد أعمت الظلمة عيناي. فقال: سوف يزول عنك الظلام في الصباح لكن ظلامي لن يزول أبدا.. و كشف عن وجهه فإذا بعينيه مغلقتين كما لو انهما ملحومتان بحديد ساخن!! قفزت من مكاني رعبا! لكنه كان يبتسم وهو يقول: آسف لم أقصد إخافتك لكن هذا هو حالي فلا تجزع. شعرت بالحرج فقلت: انا اسف لم اكن اعلم انك ضرير فقد وصفت لي الزنزانه بدقة. فضحك وقال: هي لا تستحق عناء النظر و قد قضيت فيها اياما فصارت واضحة في مخيلتي. أخبرني مالذي جاء بك الى السجن؟ لم اكن اريد الحديث فقد انهكتني هذه الليلة الطويلة. فقلت: حادث سيارة. فاضاف: يبدو انك قد كنت على عجلة من امرك. لم اجب فاضاف: حتى انك لم تتحقق جيدا اذا كانت ميتة أم مازالت على قيد الحياة. فقفزت من مكاني بكل جزع: وكيف عرفت انها سيدة! ؟
ابتسم بكل ثقة و قال: لا تسألني عن شيء حتى تنفذ ما أطلبه منك. لدي عرض لك فإن قبلت به سوف تفهم كل شيء.
لم أكن مطمئنا لكلام هذا الرجل. لكنني لا أملك خيارا آخر سوى الاستماع له فعلى مايبدو ان هذه الليلة لن تمر بسرعة! تقدمت نحوه و جلست بجانبه و قد بدات عيناي تتورمان من القلق و الأرق. وقلت له: لابد أنك قد حزرت جيدا فقد كانت سيدة و لم اجرؤ على الاقتراب منها لتثبت ان كانت ميتة او لا. لكن وجهها كان ملطخا بالدم و كنت خائفا جدا لكن الشرطة وصلت و لابد من انهم قد اسعفوها!
رفع الرجل رأسه ومأنه يتأملني و كانت عيناه المغلقتين تثير خوفي كلما نظرت اليهما. ثم امسك بيدي و كأنه يواسيني و هو يقول: لقد ماتت ايها الشاب. سحبت يدي من بين يديه و ابتعدت عنه بكل قوة: وما أدراك انت تلبث هنا منذ مدة طويلة. أرجوك كف عن هذا الحديث الفارغ و اتركني في همي.
وقف الرجل و سار بخطوات ثابتة وكأنه يراني ثم قال: ماذا لو خرجت من هنا مع طلوع الشمس؟
التفت اليه: هل تسخر مني؟ فضحك وقال: ان لم تصدقني فانت من يسخر مني. هذا الرجل الضرير يستطيع إخراجك في الغد.
كان في نبرته ثقة غريبة جعلتني اقترب منه و اجلس بجواره. قلت: كيف ذلك؟ و لماذا لم تخرج نفسك اذن؟ خرجت منه تنهيدة طويلة لا يمكن لمثلي تفسيرها ثم قال: لا تقلق فانا سوف اخرج خلال ايام. لكنك قد تحاكم طويلا اذ لم تستمع لكلامي. وفي الاخير لن تخسر شيء ان سمعتني.
لم افكر كثيرا فكما قال الرجل انا لن اخسر شيء. قلت بنبرة ساخرة: حسنا اخرجني غدا اذا استطعت. قال بكل هدوء: لن أخرجك قبل أن تعدني بخدمة. لدي ولد صغير تركته بمفرده وعليك الإهتمام به الى حين خروجي من هنا.
احسست انه جدي فعلا في كلامه. فقلت: واين أمه؟ فقال: أمه ماتت و يتهمونني بقتلها. فزعت من مكاني وهل يمكن لقاتل بأن يكون بهذا الهدوء!! لكنه أضاف: لا تستغرب فالعمى لم يمنعهم من اتهامي لكنني لا أكترث فقط عليك أن تعدني بأن تهتم بولدي هي فقط ثلاث أيام و أخرج من هنا لآخذه منك.
فكرت قليلا في كلامه و قلت: لا أعلم من أين لك بكل هذه الثقة في خروجك و خروجي من هنا بهذه السرعة لكن لا أملك سوى أن أنتظر للغد لنرى اذا كنت على حق و حينها سوف أفعل ما طلبته مني بكل تأكيد.
ثم رجع الرجل لمكانه و غط في نوم عميق. لكنني لم استطع ان انام فربما غفت عيناي لدقائق قبل شروق الشمس لكنني سمعت الشرطي ينادي بإسمي و يقول إفراج! فهل أنا أحلم! اتجهت نحو الرجل و قلت له بكل فرح :لقد أفرجو عني يا عم!!! مهما كان الذي فعلته فأنا شاكر لك و الآن اعطيني عنوان البيت حتى افي بوعدي اليك و اهتم بولدك.
لا اعلم ان كان يسمعني لانه واصل نومه و فجأة وضع يده في جيبه و اعطاني ورقة مكتوبا عليها عنوان. فقلت له: و هل يصدقني ابنك و ياتي معي او هل سيفتح لي الباب أصلا فهو لا يعرفني.
فرفع رأسه و كانه يودعني و قال بصوت خافت: سوف تفتح الباب و تجده في انتظارك.
وفي هذه اللحضة دخل الشرطي ليحملني الى الخارج لكنني قلت: وكيف سافتح الباب يا عم؟؟
فقال: بالمفتاح الذي في جيبك!!
بقيت هذه الجملة مدوية في أذني!! أيقصد ذلك المفتاح!! كيف!! تجمدت ساقاي وكان الشرطي
يسحبني وقعت على المحضر و قال لي: لا اعلم ان كنت بريئا أم محضوضا الجثة قد اختفت من المستشفى و لم يدعي عليك أحد بأي جرم لهذا فسوف نقفل المحضر و يمكنك الخروج الآن.
كانت دهشتي لا توصف و لم تعد ساقاي قادرتان على حملي!!!!!